سورة المائدة - تفسير تفسير الثعلبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (المائدة)


        


{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3) يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4) الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5)}
{يَا أَيُّهَا} يا نداء أي إشارة، ها تنبيه {الذين آمَنُواْ} نصب على البدل من: أيّها {أَوْفُواْ بالعقود} يعني بالعهود.
قال الزجّاج: العقود أو كل العهود. يقال: عاقدت فلاناً وعاهدت فلاناً، ومنه ذلك باستيثاق وأصله عقد الشيء بغيره. وهو وصله به كما يعقد الحبل بحبل إذا وصل شّداً قال الحطيئة:
قوم إذا عقدوا عقداً لجارهم *** شدّوا العناج وشدّوا فوقه الكربا
واختلفوا في هذه العقود ما هي، قال ابن جريح: هذا الخطاب خاص لأهل الكتاب وهم الذين آمنوا بالكتب المقدسة والرسل المتقدمين.
أوفوا بالعهود التي عهد بها بينكم في شأن محمد، وهو قوله: {وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ} [آل عمران: 81]. وقوله: {وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ الذين أُوتُواْ الكتاب لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 187] وقال الآخرون: فهو عالم.
قال قتادة: أراد به الذي تعاقدوا عليه في الجاهلية دليله قوله: {والذين عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 33].
ابن عباس: هي عهود الأيمان والفراق، غيره: هي العقود التي عقدها الناس بينهم، {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنعام} اختلفوا فيها، فقال الحسن وقتادة والربيع والضحّاك والسدّي: هي الأنعام كلها وهي إسم للبقر والغنم والإبل، يدل عليه قوله تعالى: {وَمِنَ الأنعام حَمُولَةً وَفَرْشاً} [الأنعام: 142] ثم بيّن ما هي، فقال: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مَّنَ الضأن اثنين} [الأنعام: 143] وأراد بها ما حرّم أهل الجاهلية على أنفسهم من الأنعام.
وقال الشعبي: بهيمة الأنعام: الأجنّة التي توجد ميتة في بطن أمهاتها إذا ذُبحت.
وروى عطية العوفي عن ابن عمر في قوله تعالى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنعام} قال ما في بطونها، قلت: إن خرج ميتاً آكله. قال: نعم هي بمنزلة رئتها وكبدها.
وروى قابوس عن أبيه عن ابن عباس أن بقرة نُحرت فوجد في بطنها جنين، فأخذ ابن عباس بذنب الجنين وقال: هذا من بهيمة الأنعام التي أُحلت لكم.
وقال أبو سعيد الخدري: سألنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن الجنين، فقال: «ذكاته ذكاة أمّه».
قال الكلبي: بهيمة الأنعام وحشها، كالظباء وبقر الوحش مفردين، وإنما قيل لها بهيمة لأن كل حي لا يمّيز فهو بهيمة، سمّيت بذلك لأنها أُبهمت عن أن تميّز.
{إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ} يقول: عليكم في القرآن لأنه حاكم وهو قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة والدم} إلى قوله: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بالأزلام ذلكم فِسْقٌ} وقوله: {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121]. {غَيْرَ مُحِلِّي الصيد وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} قال الأخفش: هو نصب على الحال يعني أوفوا بالعقود منسكين غير محلي الصيد وفيه معنى النهي.
وقال الكسائي: هو حال من قوله: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنعام إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصيد} كما يقول: أُحل لكم الطعام غير معتدين فيه.
معناه أنّه أحلت لكم الأنعام كلها إلاّ ما كان منها وحشياً فإنه صيد ولا يحل لكم إذا كنتم محرمين. فذلك قوله تعالى: {وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} قرأه العامة بضم أوّله وهي من حرم يحرم حراماً في الحركات وهما جميعاً جمع حرام، ويقال: رجل حرام وحُرم ومحرِم، وحلال وحِلّ ومحلّ {إِنَّ الله يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} يحرم ما يريد على من يريد.
{يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ الله} الآية نزلت في الحطم واسمه شريح بن ضبيعة بن هند بن شرحبيل البكري، وقال: إنه لما أتى المدينة وخلف خيله خارج المدينة ودخل وحده على النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: إلى ما تدعو الناس؟ فقال: «إلى شهادة أن لا إله إلاّ اللّه وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة». فقال: حسنٌ إلاّ إن لي مَنْ لا أقطع أمراً دونهم ولعلي أُسلم وآتي بهم.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: يدخل عليكم بعض من ربيعة يتكلم بلسان الشيطان، ثم خرج شريح من عنده، فلما خرج، قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لقد دخل بوجه كافر، وخرج بعقب غادر، فمرّ بسرح المدينة فاستاقه وانطلق به وهو يرتجز:
لقد لفها الليل بسواق حطم *** ليس براعي إبل ولا غنم
ولا بجزار على ظهر الوضم *** باتوا نياماً وابن هند لم ينم
بات يقاسيها غلام كالزلم *** خلج الساقين مسموح القدم
فلما كان في العام القابل خرج حاجّاً في حجاج بكر بن وائل من اليمامة ومعه تجارة عظيمة وقد قلّدوا الهدي فقال ناس من أصحابه للنبي صلى الله عليه وسلم هذا الحطم خرج حاجّاً فحل بيننا وبينه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «مه قد قلد الهدي».
فقال لرسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: إنّما هذا شيء كنا نفعله في الجاهلية. فأبى النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل اللّه عزّ وجل {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ الله}.
ابن عباس ومجاهد: هي مناسك الحج، وكان المشركون يحجّون ويهدون فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم فنهاهم اللّه تعالى عنها، وقال الحسن دين الله كلّه يدل عليه قوله: {وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ الله فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى القلوب} [الحج: 32].
عطية عن ابن عباس: هي أن تصيد وأنت محرم، يدل عليه قوله: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فاصطادوا}.
عطاء: شعائر حرمات اللّه اجتناب سخطه واتباع طاعته بالذّي حرم اللّه.
أبو عبيدة: هي الهدايا المشعرة وهي أن تطعن في سنامها ويحلل ويقلّد ليعلم أنها هدي، والإشعار العلامة، ومنه الحديث: حين ذبح عمر بن الخطاب رضي الله عنه أشعر أمير المؤمنين بها كأنه أعلم بعلامة، وهي على هذا القول فعيلة، بمعنى مفعّلة.
قال الكميت:
نقتلهم جيلا فجيلاً تراهم *** شعائر قربان بهم يتقرب
ودليل هذا التأويل قوله: {والبدن جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِّن شَعَائِرِ الله لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} [الحج: 36] وقيل: الشعائر المشاعر.
وقال القتيبي: شعائر اللّه واحدتها شعيرة، وهي كل شيء جعل علماً من أعلام طاعته.
{وَلاَ الشهر الحرام} بالقتال فيه فإنه محرم لقوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام قِتَالٍ فِيهِ} [البقرة: 217].
وقال: النسّيء، وذلك أنهم كانوا يحلّونه عاماً ويحرمونه عاماً، دليله قوله: {إِنَّمَا النسياء زِيَادَةٌ فِي الكفر} [التوبة: 37] {وَلاَ الهدي} وهو كل ما يهدى إلى بيت اللّه من بعير أو بقرة أو شاة.
{وَلاَ القلائد} قال أكثر المفسّرين هي الهدايا، والمراد به المقلدات وكانوا إذا أخرجوا إلى الحرم في الجاهلية قلّدوا السمر فلا يتعرض لهم أحد وإذا رجعوا تقلّدوا قلادة شعر فلم يتعرّض لهم أحد فهي عن استحلال واجب منهم.
وقال مطرف بن الشخيّر وعطاء: هي القلائد نفسها وذلك أنّ المشركين كانوا يأخذون من لحاء شجر مكّة ونحوها فيقلّدونها فيأمنون بها في الناس فنهى اللّه عز وجل أن ينزع شجرها فيقلدوه كفعل أهل الجاهلية {ولا آمِّينَ} قاصدين {البيت الحرام} يعني الكعبة.
وقرأ الأعمش: ولا آمّي البيت الحرام بالإضافة كقوله تعالى: {غَيْرَ مُحِلِّي الصيد}.
{يَبْتَغُونَ} يطلبون {فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ} يعني الرزق بالتجارة {وَرِضْوَاناً} معناه على زعمهم وعدهم لأن الكافر لا نصيب له في الرضوان، وهذا كقوله: {وانظر إلى إلهك} [طه: 97] فلا يرضى اللّه تعالى عنهم حتى يسلموا.
قتادة: هو أن يصلح معايشهم في الدنيا ولا يعجل لهم العقوبة فيها.
وقيل: إبتغاء الفضل للمؤمنين والمشركين عامّة، وابتغاء الرضوان للمؤمنين خاصة لأن الناس كانوا يحجون من بين مسلم وكافر، يدل عليه قراءة حميد بن قيس {يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ} على الخطاب للمؤمنين، وهذه الآية منسوخة بقوله: {فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} [التوبة: 5] وقوله: {فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام بَعْدَ عَامِهِمْ هذا} [التوبة: 28].
فلا يجوز أن يحجّ مشرك، ولا يأمن الكافر بالهدي والقلائد والحج.
{وَإِذَا حَلَلْتُمْ} من إحرامكم {فاصطادوا} أمر إباحة وتخيير كقوله: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِي الأرض وابتغوا مِن فَضْلِ الله} [الجمعة: 10] {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ}.
روح ابن عبادة عن شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: أقبل رجل مؤمن كان حليفاً لأبي سفيان بن الهذيل يوم الفتح بعرفة لأنه كان يقتل حلفاء محمد صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لعن اللّه من قبل دخل الجاهلية ما شيء كان في الجاهلية إلاّ وهو تحت قدميّ هاتين إلاّ سدانة الكعبة وسقاية الحج فإنّهما مردودتان إلى أهليهما».
وقال الآخرون: نزلت في حجاج كفار العرب، وقوله: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ}، قرأ الأعمش وعيسى ويحيى بن أبي كثير: يجرمنكم بضم الياء وقرأ الباقون بالفتح، وهما لغتان ولو أن الفتح أجود وأشهر وهو اختيار أبي محمد وأبي حاتم، قال أبو عبيد: لأنها اللغة الفاشية وإن كانت الأُخرى مقبولة.
واختلفوا في معناه، فقال ابن عباس وقتادة: لا يحملنكم. قال أبو عبيد: يقال جرمني فلان على أن صنعت كذا أي حملني.
قال الشاعر، وهو أبو أسماء بن الضرية:
يا كرز إنك قد فتكت بفارس *** بطل إذا هاب الكماة مجرّب
ولقد طعنت أبا عيينة طعنةً *** جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا
والمؤرج: لا يدعونكم. الفرّاء: لأكسبنكم، يقال فلان جُرمه أهله أي كافيهم.
وقال الهذلي يصف عقاباً:
جرمة ناهض في رأس نيق *** ترى لعظام ما جمعت صليبا
وقال بعضهم وهو الأخفش: قوله: {لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النار} [النحل: 62]: أي حق لهم النار.
{شَنَآنُ قَوْمٍ} أي بغضهم وعداوتهم وهو مصدر شنئت.
قرأ أهل المدينة والشام، وعاصم والأعمش: بجزم النون الأول، وقرأ الآخرون بالفتح، وهما لغتان إلاّ أن الفتح أجود لأنه أفخم اللغتين. فهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم لأن المصادر نحوه على فعلان بفتح العين مثل الضربان والنزوان والعسلان ونحوها.
{أَن صَدُّوكُمْ} قرأ ابن كثير وابن أبي إسحاق وأبو عمر: إن صدّوكم بكسر الألف على الاستيناف والجزاء واختاره أبو عبيد اعتباراً بقراءة عبد اللّه: أن يصدّوكم، وقرأ الباقون بفتح الألف أي لأن صدّوكم، ومعنى الآية لا يحملنكم بغض قوم على الاعتداء لأنهم صدّوكم، واختاره أبو حاتم ومحمد بن جرير، قال ابن جرير: لأنه لا يدافع بين أهل العلم أن هذه السورة نزلت بعد قصة الحديبية فإذا كان كذلك فالصدّ قد يقدم.
{أَن تَعْتَدُواْ} عليهم فتقتلوهم وتأخذوا أموالهم.
{وَتَعَاوَنُواْ} أي ليعين بعضكم بعضاً، ويقال للمرأة إذا كسى لحمها وتراجمها: متعاونة {عَلَى البر} وهو متابعة الأمر {والتقوى} وهو مجانبة الهوى {وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإثم والعدوان} يعني المعصية والظلم.
عن واصب بن معبد صاحب النبي صلى الله عليه وسلم قال: جئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم أسأله عن البر والإثم قال: «جئت إليّ تسألني عن البر والإثم»؟ فقلت: والذي بعثك بالحق ما جئت أسألك عن غيره، فقال: «البر ما انشرح به صدرك، والإثم ما حاك في صدرك وإن أفتاك عنه الناس».
عبد الرحمن بن جبير بن نفير الحضرمي، قال: حدّثني أبي قال: سمعت النؤاس بن سمعان الأنصاري، قال: سألت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن البر والإثم فقال: «البر حسن الخلق والإثم ما حاك في نفسك فكرهت أن يطلع عليه الناس» {واتقوا الله إِنَّ الله شَدِيدُ العقاب}.
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة} وهي كل ما له نفس سائلة مما أباح اللّه عز وجل أكلها، فارقتها روحها بغير تذكية، وإنما قلنا: نفس سائلة لأن السمك والجراد دمان وهما حلال.
{والدم} أُجْمِل هاهنا وفسر في آية أخرى فقال عز من قائل: {أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً} [الأنعام: 145] فالدم الملطخ فهو كاللحم في أكله لأن الكبد والطحال دمان وهما حلال.
عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «أُحلّت لنا ميتتان ودمان فالميتتان الحوت والجراد وأما الدّمان فالطحال والكبد».
{وَلَحْمُ الخنزير} وكل شيء منه حرام وإنما خصّ اللحم لأنّ اللحم من أعظم منافعه. {وما أُهلّ به} ذبح {لِغَيْرِ اللَّهِ} وذكر عليه غير اسم اللّه.
قال أبو ميسرة: في المائدة ثمان عشرة فريضة ليس في سورة من القرآن وهي آخر سورة نزلت ليس فيها منسوخ.
{والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وَمَآ أَكَلَ السبع إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بالأزلام}، {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ الجوارح مُكَلِّبِينَ}، {وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ والمحصنات مِنَ المؤمنات والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ}، {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة}، {والسارق والسارقة}.
{لاَ تَقْتُلُواْ الصيد} إلى قوله: {ذُو انتقام} [المائدة: 95] {مَا جَعَلَ الله مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ} {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت} [المائدة: 103، 104].
فأما المنخنقة فهي التي تختنق فتموت، قال ابن عباس: كان أهل الجاهلية يخنقون الشاة حتى إذا ماتت أكلوها، والموقوذة: التي تضرب بالخشب حتّى تموت.
قال قتادة: كان أهل الجاهلية يضربونها بالعصا حتّى إذا ماتت أكلوها. فقال فيه: قذّه يقذّه وقذا إذا ضربه حتى شفى على الهلاك.
قال الفرزدق:
شغارة تقذ الفصيل برجلها *** طارة لقوادم الأبكار
والمتردية: التي تتردى من مكان عال أو في بئر فتموت.
والنطيحة: التي تنطحها صاحبتها فتموت، و«هاء» التأنيث تدخل في الفعيل بمعنى الفاعل فإذا كان بمعنى المفعول إستوى فيها المذكر والمؤنث نحو لحية دهين، وعين كحيل، وكف خضيب، فإنما أُدخل الهاء ها هنا لأن الإسم لا يسقط منها ولو أسقط الهاء منها لم يدرَ أهي صفة لمؤنث أو مذكر، والعرب تقول لحية دهين، وعين كحيل، وكف خضيب فإذا حذفوا الإسم وأفردوا الصفة أدخلوا الهاء، قالوا: رأينا كحيلة وخضيبة ودهينة، وأكيلة السبع فأدخلوا الهاء مثل الذبيحة والسكينة وما أكل السبع غير المعلم.
وقرأ ابن عباس: وأكيل السبع، وقرأ ابن أبي زائدة: وأكيلة السبع، وقرأ الحسن وطلحة ابن سليمان: وما أكل السبع بسكون الباء وهي لغة لأهل نجد.
قال حسّان بن ثابت في عتبة بن أبي لهب:
من يرجع العام إلى أهله *** فما أكيل السبع بالراجع
قال قتادة: كان أهل الجاهلية إذا أكل السبع ملياً أو أكل منه أكلوا ما بقي {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} يعني إلاّ ما أدركتم ذكاته من هذه الأشياء، والتذكية تمام فري الأوداج، وإنهار الدم، ومنه الذكاة في السنّ وهو أن يأتي على قروحه سنة، وذلك تمام استكمال القوة ومثله المثل السائد: جري المذكيات غلاب.
قال الشاعر:
يفضله إذا اجتهدوا عليه *** تمام السن منه والذكاء
ومنه الذكاء في الفهم إذا كان تام العقل سريع القبول.
ويقول في الذكاة إذا أتممت إشعالها، فمعنى ذكيتم أدركتم ذبحه على التمام.
وقال ابن عباس وعتبة بن عمير: إذا طرفت بعينها أو ضربت بذَنبِها أو ركضت برجلها أو تحركت فقد حلت لك.
وعن زيد بن ثابت: أن ذئباً نيب في شاة فذبحوها بمروة فرخص النبي صلى الله عليه وسلم في أكله.
أبو قلابة عن أبي الأشعث الصنعاني عن شداد بن أوس قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «إن اللّه كتب الإحسان على كلّ شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحدّ أحدكم شفرته وليرح ذبيحته».
قال عاصم عن عكرمة: إن رجلاً أضجع شاته وجعل يحدّ شفرته ليذبحها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «تريد أن تميتها موفات قبل أن تذبحها».
{وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب} قال بعضهم: فهو جمع واحدها نصاب، وقيل: هو واحدة جمعها أنصاب مثل عنق وأعناق.
وقرأ الحسن بن صالح وطلحة بن مصرف: النصب بجزم الصّاد.
وروى الحسن بن علي الجعفي عن أبي عمرو: النصب بفتح النون وسكون الصّاد.
وقرأ الجحدري: بفتح النون والصّاد جعله إسماً موحداً كالجبل والجمل والجمع أنصاب كالأجمال والأجبال وكلها لغات وهو الشيء المنصوب، ومنه قوله تعالى: {كَأَنَّهُمْ إلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} [المعارج: 43] واختلفوا في معنى النصب هاهنا.
فقال مجاهد وقتادة وابن جريح: كان حول البيت ثلاثمائة وستين حجراً وكان أهل الجاهلية يذكّون عليها يشرّحون اللّحم عليها وكانوا يعظمون هذه الحجارة ويعبدونها ويذبحون لها، وكانوا مع هذا يبدلونها إذا شاؤوا لحجارة من قبالهم منها، قالوا: وليست هي بأصنام إنما الصنم ما يصوّر وينقش.
وقال الآخرون: هي الأصنام المنصوبة.
قال الأعشى:
وذا النصب المنصوب لا تستكّنه *** لعاقبة واللّه ربك فاعبدا
ثم اختلفوا في معناها. فقال بعضهم: تقديره على إسم النصب. ابن زيد {وما ذبح على النصب} وما {أهلّ لغير اللّه به} هما واحدة.
قطرب: معناه: ما ذبح للنصب أي لأجلها على معنى اللام وهما يتعاقبان في الكلام. قال اللّه تعالى {فَسَلاَمٌ لَّكَ} [الواقعة: 91] أي عليك، وقال: {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 6] أي فعليها، {وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ} معطوف على ما قبله، وأن في محل الرفع أي وحرم عليكم الإستقسام بالأزلام، والاستقسام طلب القسم والحكم من الأزلام وهي القداح التي لا ريش لها ولا نصل، واحدها زلم مثل عمر، وزلم وهي القداح.
قال الشاعر:
فلئن جذيمة قتّلت سرواتها *** فنساؤها يضربن بالأزلام
وكان استقسامهم بالأزلام على ما ذكره المفسّرون أن أهل الجاهلية إذا كان سفراً أو غزواً أو تجارة أو تزويجاً أو غير ذلك ضرب القداح وكانت قداحاً مكتوب على بعضها: نهاني ربي، وعلى بعضها: أمرني ربي، إن خرج الآمر مضى لأمره، وإن خرج الناهي أمسك.
وقال سعيد بن جبير: الأزلام حصى بيض كانوا يضربون بها.
أبو هشام عن زياد بن عبد اللّه عن محمد بن إسحاق قال: كانت هبل أعظم أصنام قريش بمكة، وكانت على بئر في جوف الكعبة وكانت تلك البئر هي التي يجمع فيها ما يهدى للكعبة وكانت عند هبل أقداح سبعة كل قدح منها فيه كتاب، قدح فيه: العقل، إذا اختلفوا في العقل من يحمله منهم ضربوا بالقداح السبعة فإن خرج العقل حمله، وقدح فيه: نعم، للأمر، إذا أرادوا أمراً ضربوا به في القداح فإن خرج ذلك القدح فعلوا ذلك الأمر.
وقدح فيه: لا إذا أرادوا أمر يضربون فإن خرج قدح لا لم يفعلوا ذلك الأمر، وقدح فيه: منكم وقدح فيه: ملصق وقدح فيه: من غيركم، وقدح فيه المياه إذا أرادوا أن يحفروا للماء ضربوا بالقداح وفيها ذلك القداح فحيثما خرج عملوا به.
وكانوا إذا أرادوا أن يختتنوا غلاماً أو أن ينكحوا امرأة أو يدفنوا ميّتاً أو شكّوا في نسب خصمهم ذهبوا به إلى هبل وبمائة درهم وبجزور فأعطوها صاحب القداح الذي يضربها ثم قرّبوا صاحبهم الذي يريدون به ما يريدون ثم قالوا: يا إلهنا هذا فلان بن فلان قد أردنا به كذا وكذا فأخرج الحق، ثم يقولون لصاحب القداح: اضرب فيضرب، فإن خرج عليه: منكم، كان وسيطاً منهم وإن خرج عليه: من غيركم، كان حليفاً، وإن خرج عليه: ملصق، كان على منزلته منهم لا نسب له ولا حليف، وإن كان في شيء مما سوى هذا مما يعملون به كنعم عملوا به، فإن خرج: لا، أخّروا عامهم ذلك حتى يأتوه مرة أخرى ينتهون في أمورهم إلى ذلك مما خرجت به القداح. فقال اللّه عز وجل {ذلكم فِسْقٌ}.
قال مجاهد: هي كعاب فارس والرّوم التي يتقامرون بها.
قال سفيان بن وكيع: الشطرنج.
رجاء بن حيوة عن أبي الدرداء قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «من تكهّن أو استقسم أو تطيّر طيرة تردّه عن سفره لم ينظر إلى الدرجات العلى من الجنة يوم القيامة».
{الْيَوْمَ يَئِسَ الذين كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ} يعني عن أن يرجعوا إلى دينهم كفّاراً، وفيه لغتان قال: الشعبي وائس يايس إياساً وإياسة.
قال النضر بن شميل: {فَلاَ تَخْشَوْهُمْ واخشون اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} نزلت الآية في يوم الجمعة وكان يوم عرفة بعد العصر في حجة الوداع سنة عشر للهجرة والنبي صلى الله عليه وسلم واقف بعرفات على ناقته العضباء وكادت عضد الناقة ينقد من ثقلها فبركت.
وقال طارق بن شهاب: جاء رجل من اليهود إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: آية نقرؤها لو علينا نزلت في ذلك اليوم لاتخذناه عيداً، قال: أية آية؟ قال: {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ}، قال عمر: قد علمت في أي يوم نزلت وفي أي مكان، إنها نزلت يوم عرفة في يوم جمعة ونحن مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وقوفاً بعرفات وكلاهما بحمد اللّه لنا عيد، ولا يزال ذلك اليوم عيداً للمسلمين ما بقي منهم أحد وقد صار من ذلك اليوم خمسة أعياد جمعة وعرفة وعيد اليهود والنصارى والمجوس ولا يجمع أعياد أهل الملل في يوم قبله ولا بعده.
وروى هارون بن عنترة عن أبيه قال: «لما نزلت هذه الآية بكى عمر رضي الله عنه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم» ما يبكيك يا عمر قال: أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا فأمّا إذا كمل فإنه لم يكمل شيء إلاّ نقص، فقال: «صدقت».
وكانت هذه الآية نعي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وعاش بعدها أحد وثمانون يوماً أو نحوها.
واختلف المفسّرون في معنى الآية فقال ابن عباس والسدّي: {اليوم} وهو يوم نزول هذه الآية {أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} أي الفرائض والسنن والحدود والأحكام والحلال والحرام فلم ينزل بعد هذه الآية حلال ولا حرام ولا شيء من الفرائض. فهذا معنى قول ابن عباس والسدي.
وقال سعيد بن جبير وقتادة: اليوم أكملت لكم دينكم فلم يحج معكم مشرك، وقيل: هو أن اللّه تعالى أعطى هذه الأُمة من أنواع العلم والحكمة جميع ما أعطى سائر الرسل والأُمم فزادهم.
وقيل: إن شرائع الأنبياء زالت ونقضت وشريعة هذه الأمة باقية لا تنمح ولا تتغيّر إلى يوم القيامة [.......] هو بايعك ثم فرّقوه، يكن هذا لغيرهم، وقيل: لم يكن إلاّ هذه الأُمة، وقيل: هو أن اللّه تعالى جمع بهذه الآية جميع [........] الولاية وأسبابها.
قال الثعلبي: وسمعت أبا القاسم بن حسيب قال: سمعت أبا جعفر محمد بن أحمد بن سعيد الرّازي قال: سمعت العباس بن حمزة قال: سمعت ذا النون يقول يعلمنا من سياسة فيقول أربعة أشياء: الكتاب والرسول، والخلعة والولاية.
قال: كتاب جعله أشرف الكتب وأكثرها يسراً وأخفّها أمراً وأغزرها علماً وأوفرها حكماً، ورسول اللّه جعله أعظم الرسل وأفضلهم، والخلعة جعله عطاءً ولم يجعلها عارية، والولاية جعلها دائمة إلى نفخ الصور.
{وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} حققت وعدي في قولي ولأُتم نعمتي عليكم فكان من تمام نعمته أن دخلوا مكة آمنين وعليها ظاهرين وحجوا مطمئنين لم يخالطهم أحد من المشركين.
وقال الشعبي: نزلت هذ الآية بعرفات حيث هدم منار الجاهلية ومناسكهم واضمحل الشرك ولم يحج معهم في ذلك العام مشرك، ولم يطف بالبيت غيرهم.
السّدي: أظهرتكم على العرب.
{وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً فَمَنِ اضطر} إجتهد {فِي مَخْمَصَةٍ} مجاعة يقال: هو خميص البطن إذا كان طاوياً خاوياً، ورجل خمصان وامرأة خمصانة إذا كانا ضامرين مضيمين والخَمص والخُمص الجوع.
قال الشاعر:
يرى الخمص تعذيباً وإن يلق شبعة *** يبت قلبه من قلّة الهمّ مبهماً
{غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ}.
قال أبو عبيدة: غير متحرف مائل، قطرب: مائل، المبرّد: زايغ وقرأ النخعي: متجنف وهما بمعنى واحد يقال: تجنّف وتجانف مثل تعهد وتعاهد.
قتادة: غير متعرض بمعصية في مقصده وهو قول الشافعي.
وقال أبو حنيفة: ما أكل فوق الشبع {فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} فيه إضمار، تقديره: فأكله، ويكتفى بدلالة الكلام عليه، فإن اللّه غفور رحيم أي غفور له غفور كما يقول عبد اللّه: ضربت، فيريد ضربته.
قال الشاعر:
ثلاث كلّهنّ قتلت عمداً *** فأخزى اللّه رابعة تعود
وقد فسر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم المخمصة بما رواه الأوزاعي عن حسان بن عطية عن أبي واقد قال: سألت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إنا بأرض يصيبنا بها مخمصة فمتى تحل لنا الميتة؟
قال صلى الله عليه وسلم: «إذا لم تصطبحوا ولم تغتبقوا ولم تحتفئوا بقلا فشأنكم بها».
{يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ} الآية.
قال أبو رافع: «جاء جبرئيل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاستأذن عليه فأذن له فأبطأ وأخذ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم رداءه فخرج فقال: قد أذنا لك يا رسول اللّه، قال: أجل يا رسول اللّه ولكنا لا ندخل بيتاً فيه صورة ولا كلب فنظروا فإذا في بعض بيوتهم جرو».
عن عبد اللّه بن يحيى عن أبيه عن علي بن أبي طالب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الملائكة لا تدخل بيتاً فيه صورة ولا كلب ولا جنب».
رجعنا إلى حديث أبي رافع قال: فأمرني أن لا أدع كلباً بالمدينة إلاّ قتلته وقلت حتى خفت العوالي فأتيت إلى امرأة في ناحية المدينة عندها كلب يحرس عنها فرحمته فتركته، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته بأمري، فأمرني بقتله فرجعت إلى الكلب فقتلته. وقال ابن عمر: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول رافعاً صوته: «اقتلوا الكلاب».
قال: وكنا نلقى المرأة تقدم من المدينة بكلبها فنقتله، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتلها وحرم ثمنها. وروى علي بن رباح اللخمي عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «لا يحل ثمن الكلاب ولا حلوان الكاهن ولا مهر البغي».
ونهى عن اقتنائها وإمساكها وأمر بغسل الإناء من ولوغها سبع مرات أُولاهنّ بالتراب نرجع إلى الحديث الأول.
قال: «فلما أمر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب جاء ناس فقالوا: يا رسول اللّه ماذا يحلّ لنا من هذه الآمة التي نقتلها، فسكت رسول اللّه فأنزل اللّه هذه الآية».
وأذن رسول اللّه في اقتناء الكلاب التي ينتفع بها ونهى عن إمساك ما لا نفع فيه منها، وأمر بقتل الكلب العقور وما يضر ويؤذي ورفع القتل عمّا سواها ممّا لا ضرر فيه.
وروى الحسن عن عبد اللّه بن معقل قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «لولا أنّ الكلاب أُمّة من الأُمم لأمرت بقتلها فاقتلوا منها الأسود البهيم وأيما قوم اتخذوا كلباً ليس بكلب حرث أو صيد أو ماشية نقصوا من أجورهم كل يوم قيراطاً».
عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: «من اقتنى كلباً ليس كلب صيد ولا ماشية ولا أرض فإنه ينتقص من أجره قيراطان كل يوم».
والحكمة في ذلك ما روى أبو بكر بن أبي شيبة عن عبد الرزاق السريعي قال: قيل لعبد اللّه بن المبارك: ما تقول في قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: «من اقتنى كلباً لا كلب صيد ولا ماشية نقص من عمله كل يوم كذا وكذا من الأجر».
فقال حدّثني الأصمعي قال: قال أبو جعفر المنصور لعمرو بن عبيد: ما بلغك في الكلب؟ قال: بلغني أن من أخذ كلباً لغير زرع ولا حراسة نقص من أجره كل يوم قيراط. فقال له: ولم ذلك؟ قال: هكذا جاء الحديث، قال: خذها بحقّها إنّما ذلك لأنّه ينبح على الضيف ويروع السائل.
وكانت أسخياء العرب تبغض الكلاب لهذا المعنى وتذم من ربطه وهمّ بقتله.
قال الثعلبي: أنشدني أبو الحسن الفارسي قال: أنشدني أبو الحسن الحراني البصري أنّ بعض شعراء البصرة نزل بعمّار فسمع لكلابه نبحاً فأنشأ يقول:
نزلنا بعمار فأشلى كلابه *** علينا فكدنا بين بيتيه نؤكل
فقلت لأصحابي أسر إليهم *** إذا اليوم أم يوم القيامة أطول
قال عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير في هذه الآية قال: نزلت في عدي بن حاتم وزيد بن المهلهل الطائيين وهو زيد الخيل الذي سمّاه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم زيد الخير وذلك إنهما جاءا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قالا: يا رسول اللّه إنّا قوم نصيد الكلاب والبزاة فإن كلاب آل درع وآل حورية تأخذ البقر والحمر والظباء والضب فمنه ما يدرك ذكاته ومنه ما يقتل فلا يدرك ذكاته وقد حرّم الله الميتة فماذا يحل لنا منها فنزلت {يَسْأَلُونَكَ} يا محمد {مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ} قل: {أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات} يعني الذبائح التي أحلّها الله {وَمَا عَلَّمْتُمْ} يعني وصيد ما علمتم {مِّنَ الجوارح}.
واختلفوا في هذه الجوارح التي يحل صيدها بالتعليم غير المدرك ذكاته وما أدركت فما ذكاته فهو لك، وإلاّ فلا يطعم، وهذا غير معمول به.
وقال سائر العلماء: هي الكواسب من السباع والبهائم والطير مثل النمر والفهد والكلب والعقاب، والصقر، والبازي، والباشق، والشاهين ونحوها مما يقبل التعليم، فسميت جوارح لجرحها أربابها أقواتهم من الصيد أي كسبها.
يقال: فلان جارحة أهلها أي كاسبهم ولا جارحة لفلان إذ لم تكن لها كسب {مُكَلِّبِينَ} منصوب على الحساب في المعنى وصيد ما علمتم من الجوارح مكلبين إلى هذه الحال أي في حال صيدكم أصحاب كلاب، والتكليب إغراء الصيد وإشلاؤه على الصيد.
قال الشاعر:
باكره عند الصباح مكلّب *** أزلّ كسرحان القصيمة أغبر
قرأ أبن مسعود وأبو زرين والحسن: مكلبين بتخفيف اللام على هذا المعنى، وهي قراءة الحسن والقتيبي أيضاً، ويجوز أن يكون من قولهم: أكلب الرجل، إذا كثرت كلابه، مثل: وأمشى إذا كثرت ماشيته، وذكر الكلاب لإنها أكثر وأعم والمراد به جميع الجوارح.
{تُعَلِّمُونَهُنَّ} آداب الصيد {مِمَّا عَلَّمَكُمُ الله} أي من العلم الذي علمكم اللّه، وقال السّدي: من بمعنى الكاف، أي كما علّمكم اللّه، وهو أن لا يجثمن ولا يعضنّ ولا يقتلن ولا يأكلن {فَكُلُواْ مِمَّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ واذكروا اسم الله عَلَيْهِ} عند إرسال البهم والجوارح.
حكم الآية:
والمعلم من الجوارح الذي يحلّ صيده هو أن يكون إذا أرسله صاحبه وأشلاه استشلى وإذا أخذ أمسك ولم يأكل. فإذا دعاه أجابه، وإذا أراده لم يفرّ منه، فإذا فعل ذلك مرّات فهو معلّم فمتى كان بهذا الوصف فاصطاد جاز أكله فإذا أمسك الصيد ولم يأكل منه جاز أكله، وكان حلالاً، فإن أكل منه، فللشافعي فيه قولان: أحدهما: لا يحلّ ولا يؤكل وهو الأشهر والأظهر من مذهبه لأنّ اللّه عز وجل قال: {فَكُلُواْ مِمَّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} وهو لم يمسك علينا وإنما أمسك على نفسه، وهذا قول الحسن وطاووس والشعبي وعطاء والسدّي.
وقال ابن عباس: إذا أرسلت الكلب فأكل من صيد فهي ميتة لا يحل أكله لأنه سبع أمسكه على نفسه، ولم يمسك عليك ولم يتعلم ما علّمته، فاضربه ولا تأكل من صيده.
يدل عليه ما روى الشعبي عن عدي بن حاتم أنه سأل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن الصيد فقال: «إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم اللّه عليه فإن أدركته لم يقتل، فاذبح واذكر اسم اللّه عليه وإن أدركته قد قتل ولم يأكل فكل فقد أمسك عليك، فإن وجدته قد أكل منه فلا تطعم منه شيئاً، فإنما أمسك على نفسه، فإن خالط كلبَك كلابٌ فقتلن ولم يأكلن فلا تأكل منه فإنك لا تدري أيّها قتل وإذا رميت سهمك فاذكر اسم اللّه، فإن أدركته فكل، إلاّ أن تجده وقع في ماء فمات فإنك لا تدري الماء قتله أو سهمك فإن وجدته بعد ليلة أو ليلتين ولم تر فيه سهمك فإن شئت أن تأكل منه فكل».
والقول الثاني: أنه يحلّ وإن أكل وهو قول سلمان الفارسي، وسعد بن أبي وقّاص، وابن عمر، وأبي هريرة، قال حميد بن عبد اللّه وسعد ابن أبي وقّاص: لنا كلاب ضواري يأكلن ويبقين، قال: كل وإن لم يبق إلاّ نصفه أو ثلثيه فكل ميتة.
وروى ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا فرق في حمله على ما ذكرنا من الطيور والسباع المعلمة.
وروى أبو قلابة عن ثعلبة الخشني: أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا رسول اللّه إن أرضنا أرض صيد فأُرسل سهمي وأذكر اسم اللّه وأرسل كلبي المعلم وأذكر اسم اللّه وأرسل كلبي الذي ليس معلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما حبس عليك سهمك، وذكرت اسم اللّه فكل، وما حبس عليك كلبك المعلم وذكرت اسم اللّه، فكل وما حبس عليك كلبك الذي ليس معلم فأدركت ذكاته فكل وإن لم تدرك ذكاته فلا تأكل».
{واتقوا الله إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب} {اليوم أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات} يعني الذبائح {وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب حِلٌّ لَّكُمْ} يعني ذبائح اليهود والنصارى، ومن دخل في دينهم من سائر الأمم قبل أن يبعث محمد صلى الله عليه وسلم حلال لكم، فمن دخل في دينهم بعد بعث النبي صلى الله عليه وسلم فلا تحل ذبيحته، فأما إذا سمّى أحدهم غير اللّه عند الذبح مثل قول النصارى: باسم المسيح، اختلفوا فيه.
فقال ربيعة: سمعت ابن عمر يقول: لا تأكلوا ذبائح النصارى، فإنهم يقولون: باسم المسيح، فإنهم لا يستطيعون أن تهدوهم وقد ظلموا أنفسهم، دليله قوله: {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121].
والقول الثاني: إنّه يجوّز ذبيحتهم، الكتابي، وإن سمّي غير اللّه فإن هذا مستثنى من قوله تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَلَيْهِ} وهي إنما نزلت في ذبائح المشركين وما كانوا يذبحونها لأصنامهم، وعلى هذا أكثر العلماء.
قال الشعبي وعطاء: في النصراني يذبح فيقول: باسم المسيح قالا: يحلّ. فإنّ اللّه عز وجل قد أحل ذبائحهم وهو أعلم بما يقولون.
وسأل الزهري ومكحول عن ذبائح عبدة أهل الكتاب، والمربيات لكنائسهم وما ذبح لها فقالا: هي حلال، وقرأ هذه الآية.
وقال الحسن والحرث العكلي: ما كنت أسأله عن ذبحه فإنه أحل اللّه لنا طعامه، فإذا ذبح اليهودي والنصراني فذكر غير اسم اللّه وأنت تسمع فلا تأكله، فإذا غاب عنك فكل، فقد أحل اللّه لك ما في القرآن، فذبح اليهود والنصارى ونحرهم مكروه.
قال علي رضي الله عنه: «لا يذبح ضحاياكم اليهود ولا النصارى ولا يذبح نسكك إلاّ مسلم».
قوله عز وجل {والمحصنات مِنَ المؤمنات والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ} اختلف العلماء في معنى الآية وحكمها، فقال قوم: عنى بالإحصان في هذه الآية الحرية وأجازوا نكاح كل حرّة، مؤمنة كانت أو كتابية فاجرة كانت أو عفيفة وحرّموا إماء أهل الكتاب أن يتزوجهن المسلم بحال، وهذا قول مجاهد وأكثر الفقهاء، والدليل عليه قوله: {وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً} [النساء: 25] الآية، فشرط في نكاح الإماء الإيمان.
وقال آخرون: إنما عنى اللّه تعالى بالمحصنات في هذه الآية العفائف من الفريقين إماءً كنّ أو حرائر، فأجازوا نكاح إماء أهل الكتاب بهذه الآية، وحرّموا البغايا من المؤمنات والكتابيات، وهذا قول أبي ميسرة والسّدي.
وقال الشعبي: إحصان اليهودية والنصرانية أن تغتسل من الجنابة، وتحصن فرجها.
وقال الحسن: إذا رأى الرجل من امرأته فاحشة فاستيقن فإنه لا يمسكها، ثم اختلفوا في الآية أهي عامة أم خاصة. فقال بعضهم: هي عامة في جميع الكتابيات حربيّة كانت أو ذميّة، وهو قول سعيد بن المسيّب والحسن.
وقال بعضهم: هي الذميّات، فإما الحربيات فإنّ نساءهم حرام على المسلمين، وهو قول ابن عباس.
السدّي عن الحكم عن مقسم عنه قال: من نساء أهل الكتاب من تحلّ لنا ومنهم من لا تحل لنا، ثم قرأ: {قَاتِلُواْ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ...} إلى قوله: {صَاغِرُونَ} [التوبة: 29]. فمن أعطى الجزية حلّ لنا نساؤه ومن لم يعط الجزية لم يحل لنا نساؤه.
قال الحكم: فذكرت ذلك لإبراهيم فأعجبه، وكان ابن عمر لا يرى نكاح الكتابيات، ويفسر هذه الآية بقوله: {وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221] يقول: لا أعلم شركاً أعظم من أن تقول المرأة ربها عيسى.
وروى المبارك عن سليمان بن المغيرة قال: سأل رجل الحسن: أيتزوّج الرجل المرأة من أهل الكتاب؟ قال: ماله ولأهل الكتاب وقد أكثر الله المسلمات: فإن كان لا بدّ فاعلا فليعمد إليها حصاناً غير مسافحة. قال الرجل: وما المسافحة، قال: هي التي إذا ألمح الرجل إليها بعينه أتبعته {وَمَن يَكْفُرْ بالإيمان فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ}.
قال قتادة: ذكر لنا ان رجالاً قالوا لما نزل قوله: {والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ}: كيف نتزوّج نساء لسن على ديننا؟ فأنزل اللّه هذه الآية.
وقال مقاتل ابن حيّان: نزلت فيما أحصن المسلمون من نساء أهل الكتاب، يقول: ليس إحصان المسلمين إيّاهنّ بالذي يخرجهنّ من الكفر يعني عنهن في دينهن [...] وجعلهن ممن كفر بالإيمان، فقد حبط عمله وهو بعد للناس عامّة، {وَمَن يَكْفُرْ بالإيمان فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخرة مِنَ الخاسرين} يعني من أهل النّار.
وقال ابن عباس: ومن يكفر باللّه قال الحسن بن الفضل: إن صحت هذه الرواية كان فمعناه برب الإيمان وقيل: بالمؤمنين به.
قال الكلبي: ومن يكفر بالإيمان أي بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم.
قال الثعلبي رحمه اللّه: وسمعت أبا القاسم الجهني قال: سمعت أبا الهيثم السنجري يقول: الباء صلة كقوله تعالى: {يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ الله} [الإنسان: 6] {تَنبُتُ بالدهن} [المؤمنون: 20] والمعنى ومن يكفر بالإيمان أي يجحده فقد حبط عمله.
وقرأ الحسن بفتح الباء، قرأ ابن السميع: فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين.


{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6) وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (10)}
{يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة} الآية، أمر اللّه تعالى بالوضوء عند القيام إلى الصلاة. واختلف العلماء في حكم الآية، فقال قوم: هذا من العام الذي أريد به الخاص. والمجمل الذي وكل بيانه إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ومعنى الآية: إذا قمتم إلى الصلاة وأنتم على غير طهر، يدلّ عليه ما روي عن عكرمة إنه سأل عن هذه الآية قال: أو كلّ ساعة أتوضأ؟ فقال: إن ابن عباس قال: لا وضوء إلاّ من حدث.
وقال الفضل بن المبشر: رأيت جابر بن عبد اللّه يصلي الصلوات الخمس بوضوء واحد. فإن بال أو أحدث توضأ ومسح بفضل مائه الخفين. فقيل: أي شيء تصنعه برأيك؟ فقال: بل رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يصنعه وأنا أصنع كما رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يصنع.
وروى محارب بن دثار عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء بوضوء واحد.
وقال المسوّر بن مخرمة لابن عباس: هل لك في عبيد بن عمير إذا سمع النداء خرج من المسجد. فقال ابن عباس: هكذا يصنع الشيطان، فدعاه فقال: ما يحملك على ما تصنع إذا سمعت النداء خرجت وتوضأت، قال إن اللّه عز وجل يقول: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة فاغسلوا وُجُوهَكُمْ}... الآية. قال: ليس هذا إذا توضأت فإنك على طهر حتّى تحدث، ثم قال: هكذا يصنع الشيطان إذا سمع النداء ولّى وله ضراط.
وروى الأعمش عن عمارة قال: كان للأسود قعب قد ري رجل وكان يتوضأ به ثم يصلي بوضوئه ذلك الصلوات كلها.
وقال زيد بن أسلم والسّدي: معنى الآية إذا قمتم إلى الصلاة من النوم، وقال بعضهم: أراد بذلك كل قيام العبد إلى صلاته أن يجدّد لها طهراً على طريق الندب والاستحباب، قال عكرمة: كان علي يتوضأ عند كل صلاة ويقرأ هذه الآية {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة}.
عن أبي عفيف الهذلي إنه رأى ابن عمر يتوضأ للظهر ثم العصر ثم المغرب، فقلت: يا أبا عبد الرحمن أسنّة هذا الوضوء؟ قال: إنه كان كافياً وضوئي للصلاة كلها مالم أُحدث ولكني سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: «من توضأ على طهر كتب اللّه له عشر حسنات» ففي ذلك رغبت يا ابن أخي.
وقال بعضهم: بل كان هذا أمراً من اللّه عز وجل لنبيه وللمؤمنين حتماً وامتحاناً أن يتوضأ لكل صلاة، ثم نسخ للتخفيف.
وقال محمد بن يحيى بن جبل الأنصاري قلت: لعبيد اللّه بن عمر: أخبرني عن وضوء عبد اللّه لكل صلاة طاهراً كان أو غير طاهر عمّن هو؟ قال: حدّثتنيه أسماء بنت زيد الخطاب أن عبد اللّه بن حنظلة بن أبي عامر الغسيلي حدثها أن النبي صلى الله عليه وسلم أُمر بالوضوء عند كل صلاة، فشق ذلك عليه فأُمر بالسواك ورفع عنه الوضوء إلاّ من حدث، وكان عبد اللّه يرى أن به قوّة عليه فكان يتوضأ.
وروى سليمان بن بريد عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ لكل صلاة، فلما كان يوم فتح مكّة صلّى الصلوات الخمس كلها بوضوء واحد، فقال عمر رضي الله عنه: إنك تفعل شيئاً لم تكن تفعله قال: «عمداً فعلته يا عمر».
وقال بعضهم: هذا إعلام من اللّه تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم أن لا وضوء عليه إلاّ إذا قام إلى صلاته دون غيرها من الأعمال.
وذلك إنه إذا كان أحدث امتنع من الأعمال كلها حتّى يتوضأ فأذن اللّه عز وجل بهذه الآية أن يفعل كل ما بدا له من الأفعال بعد الحدث غير الصلاة.
وروى عبد اللّه بن أبي بكر بن عمرو بن حزم عن عبد اللّه بن علقمة بن وقاص عن أبيه قال: «كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إذا أراق البول نكلمه فلا يكلمنا ونسلم عليه فلا يرد علينا حتى يأتي منزله فيتوضأ لوضوء الصلاة حتّى نزلت آية الرخصة {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة فاغسلوا وُجُوهَكُمْ}».
وحّد الوجه من منابت شعر الرأس إلى طرف الذقن طولاً، وما بين الأُذنين عرضاً، فأما ما استرسل من اللحية عن الذقن؛ فللشافعي هنا قولان:
أحدهما: أنه لا يجب على المتوضئ غسله، وهو مذهب أبي حنيفة واختيار المزني، واحتجّوا بأن الشعر النازل من الرأس لا يُحكم بِحُكم الرأس. وكذلك من الوجه.
والثاني: أنه يجب غسله، ودليل هذا القول من ظاهر هذه الآية، لأن الوجه ما يواجه به، فكلّ ما تقع به المواجهة من هذا العضو يلزمه غسله بحكم الظاهر.
ومن الحديث قول النبي صلى الله عليه وسلم حيث نهى عن تغطية اللحية في الصلاة إنها من الوجه، ومن اللغة قول العرب بدل وجه فلان وخرج وجهه إذا نبتت لحيته.
{وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المرافق} غسل اليدين من المرفقين واجب بالإجماع واختلفوا في المرفقين.
فقال الشعبي ومالك والفراء ومحمد بن الحسن ومحمد بن جرير: لا يجب غسل المرفقين في الوضوء، وإلى هاهنا بمعنى الحدّ والغاية، ثم استدلوا بقوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّواْ الصيام إِلَى الليل} [البقرة: 187] والليل غير داخل في الصوم، وقال سائر الفقهاء: يجب غسلهما و{إلى} بمعنى مع واحتجوا بقوله تعالى: {وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَهُمْ إلى أَمْوَالِكُمْ} [النساء: 2] وقوله: {فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إلى رِجْسِهِمْ} [التوبة: 125] وقوله: {مَنْ أنصاري إِلَى الله} [آل عمران: 52].
{وامسحوا بِرُؤُوسِكُمْ} اختلف الفقهاء في القدر الواجب من مسح الرأس.
فقال مالك والمزني: مسح جميع الرأس في الوضوء واجب.
وجعلوا الباء بمعنى التعميم، كقوله عز وجل {فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِّنْهُ} [المائدة: 6] وقوله: {وَلْيَطَّوَّفُواْ بالبيت العتيق} [الحج: 29].
وقال أبو حنيفة: مسح ربع الرأس واجب. أبو يوسف: نصف الرأس، الشافعي: يجوز الاقتصار على أقل من ربع الرأس، فإذا مسح مقدار ما يسمى مسحاً أجزأه، واحتج بقوله: {وامسحوا بِرُؤُوسِكُمْ}، وله في هذه الآية دليلان، أحدهما: مسح بعض رأسه وإن قلّ فقد حصل من طرفي اللسان ماسحاً رأسه. فصار مؤدياً فرض الأمر.
والثاني: إنه قال في العضوين اللذين أمر بتعميمها بالطهارة {فاغسلوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} فأطلق الأمر في غسلهما وقال في الرأس {فامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ} فأدخل الباء للتبعيض لأنّ الفعل إذا تعدى إلى المفعول من غير حرف الباء كان دخول الباء للتبعيض، كقول القائل: مسحت يدي بالمنديل وإن كان مسح ببعضه.
قال عنترة:
شربت بماء الدحرضين فأصبحت *** زوراء تنفر عن حياض الديلم
ويدل عليه من السنة ما روى عمرو بن وهب النقعي عن المغيرة بن شعبة أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فمسح بناصيته وعلى عمامته وخفّيه، فاقتصر في المسح على الناصية دون سائر الرأس.
{وَأَرْجُلَكُمْ} اختلف القرّاء فيه، فقرأ عروة بن الزبير وابنه هشام ومجاهد، وإبراهيم التميمي وأبو وائل، والأعمش، والضحّاك وعبدالله بن عامر، وعامر ونافع، والكسائي وحفص وسلام ويعقوب: {وأرجلكم} بالنصب وهي قراءة علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
وروى عاصم بن كليب عن أبي عبد الرحمن السّلمي، قال: قرأ عليّ الحسن والحسين فقرأا: وأرجلَكم بالخفض، فسمع عليّ ذلك وكان يقضي بين الناس، فقال: وأرجلِكم بالنصب، وقال: هذا من المقدم والمؤخر من الكلام.
وقراءة عبد اللّه وأصحابه. قال الأعمش: كان أصحاب عبد اللّه يقرؤن: وأرجلكم نصباً فيغسلون.
وقراءة ابن عباس، روى عكرمة عنه أنه قرأها: وأرجلكم بالنصب وقال: عاد الأمر إلى الغسل وهو اختيار أبي عبيد، وقرأ الباقون بالكسر، وهي قراءة أنس والحسن وعلقمة والشعبي، واختيار أبي حاتم، فمن نصب فمعناه واغسلوا أرجلَكم، ومن خفض فله وجوه ثلاث: أحدها أن المسح يعني الغسل والباء بمعنى التعميم، يقول تمسّحت للصلاة أي توضأت، وذلك أن المتوضئ لا يرضى أن يصيب وجهه وذراعيه وقدميه حتّى يمسحها فيغسلها فلذلك سمي الغسل بها، وهذا قول أبي زيد الأنصاري وأبي حاتم السجستاني.
وقال أبو عبيدة والأخفش وغيرهما: إن الأرجل معطوفة على الرؤس على الإتباع بالجواز لفظاً لا معنى. كقول العرب (جحر ضب خرب) قال تعالى {رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْ هذه القرية الظالم أَهْلُهَا} [النساء: 75].
قال الشاعر:
ورأيت زوجك في الوغى *** متقلداً سيفاً ورمحاً
والرمح لا يتقلد إنّما يحمل.
وقال لبيد:
وأطفلت بالجلهتين *** ظباؤها ونعامها
والنعام لا تطفل وإنما تفرخ.
وقال بعضهم: أراد به المسح على الأرجل لقرب الجوار.
كقوله: غمر الردا أي واسع الصدر. ويقال: قبّلَ رأس الأمير ويده ورجله، وإن كان في العمامة رأسها وفي الكم يده وفي الخف رجله. وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ركع وضع يده على ركبتيه وليس المراد إنه لم يكن بينهما حائل. قال اللّه تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4] قال كثير من المفسرين: أراد به قلبك فطهر.
قال همام بن الحرث: بال جرير بن عبد اللّه فتوضأ ومسح على خفيه فقيل له في ذلك، فقال: رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يفعله.
قال الأعمش: كان إبراهيم يعجبه هذا الحديث، وهو أن إسلام جرير كان بعد نزول المائدة.
وأجرى قوم من العلماء الآية على ظاهرها، وأجازوا المسح على القدمين، وهو قول ابن عباس قال: الوضوء مسحتان وغسلتان.
وقول أنس: روى ابن عليّة عن حميد عن موسى بن أنس إنه قال لأنس ونحن عنده: إن الحجاج خطبنا بالأهواز فذكر الطهر فقال: إغسلوا وجوهكم وأيديكم وامسحوا برؤسكم، فإنه ليس شيء من ابن آدم أقرب إلى خبثه من قدميه فاغسلوا بطونهما وظهورهما وكعبهما وعراقيبهما.
فقال: صدق اللّه وكذب الحجاج، قال اللّه تعالى {وامسحوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} وكان أنس إذا مسح قدميه بلّهما.
وروى حماد عن عاصم الأحول عن أنس قال: نزل القرآن بالمسح، والسّنة بالغسل.
وقول الحسن والشعبي، قال الشعبي: نزل جبرئيل بالمسح، ثم قال: ألا ترى المتيمم يمسح ما كان غسلاً ويلغي ما كان مسحاً.
وقول عكرمة قال يونس: حدّثني من صحب عكرمة إلى واسط قال: فما رأيته غسل رجليه إنما كان يمسح عليهما حتى خرج منها.
وقول قتادة قال: إفترض اللّه غسلين ومسحين، ومذهب داود بن علي الأصفهاني ومحمد ابن جرير الطبري وأبي يعلى وذهب بعضهم إلى إن المتوضئ يتخير بين غسلهما ومسحهما، والدليل على وجوب غسل الرجلين في الوضوء قول اللّه عز وجل: {إِلَى الكعبين} فتحديده بالكعبين دليل على الغسل كاليدين لما حدّهما إلى المرفقين كان فرضهما الغسل دون المسح.
ويدل عليه من السّنة ما روي عن عثمان وعلي وأبي هريرة وعبد اللّه بن زيد إنهم حكوا وضوء رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فغسلوا أرجلهم.
وروى خلاد بن السائب عن أبيه عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يقبل اللّه صلاة امرئ حتّى يضع الوضوء مواضعه فيغسل وجهه ويديه ويمسح برأسه ويغسل أرجله».
وروى عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عطاء عن جابر أنه قال: أمرنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن نغسل أرجلنا إذا توضأنا.
وقال ابن أبي ليلى: أجمع أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم على وجوب غسل الرجلين.
أبو يحيى عن عبد اللّه بن عمرو قال:
مرّ النبي صلى الله عليه وسلم على قوم عراقيبهم تلوح فقال: «أسبغوا الوضوء ويل للعراقيب من النار».
وقال حميد الطويل: رأى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أعمى يتوضأ فقال: «إغسل باطن قدميك» فجعل يغسل حتّى سمّي أبا غسيل.
روى أبو قلابة أن عمر رضي الله عنه رأى رجلاً يتوضأ فترك باطن قدميه فأمره أن يعيد الوضوء والصلاة.
وقالت عائشة رضي اللّه عنها: لإن تقطعا أحبّ إلّي من أن أمسح على القدمين بغير خفين إلى الكعبين.
وهما النابتان من جانبي الرجل ومجمع مفصل الساق والقدم. وسمّتهما العرب المنجمين، وعليهما الغسل كالمرفقين، هذا مذهب الفقهاء وخالفهم محمد بن الحسن في الكعب فقال: هو الناتئ من ظهر القدم الذي يجري عليه الشراك. قال: وسمي ذلك لارتفاعه ومنه الكعبة.
ودليلنا قوله تعالى: {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الكعبين} فجمع الأرجل وثنّى الكعبين فلو كان لكل رجل كعب واحد لجمعهما في الذِكر كالمرافق لما كان في كل يد مرفق واحد، بجمع المرافق فلما جمع الأرجل وثنّى الكعبين ثبت أن لكل رِجل كعبين ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم للمحرم: «فليلبس النعلين فإن لم يجد النعلين فليلبس خفّين وليقطعهما أسفل من الكعبين».
فدلّ على أن الكعبين ما قلنا، إذ لو كان الكعب هو الناتئ من ظهر القدم لكان إذا قُطع الخف من أسفله لم يكن استعماله ولا المشي فيه، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يأمر بإضاعة المال وإتلافه.
ويدل عليه ما روي أيضاً عنه صلى الله عليه وسلم إنه مرّ في سوق مكّة يقول: «قولوا لا إله إلاّ اللّه تفلحوا».
وأبو لهب يرميه من ورائه بالحجارة حتّى أدمى كعبيه.
فلو كان ما ذهب إليه محمد بن الحسن، ما قيل: حتى أُدمي، إذ رميت من ورائه.
ويدل عليه ما روي أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: «أقيموا صفوفكم أو ليخالفنّ اللّه بين قلوبكم»، حتّى كان الرجل منّا يلزق كعبه بكعب صاحبه ومنكبه بمنكبه، فيدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: «ويل للأعقاب والعراقيب من النار»أصل الأعقاب والعراقيب إنما يحصل لمن غسل المنجمين.
وروى أبو إدريس عن أبي ذر عن عليّ كرم اللّه وجهه قال: بينا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في ملإ من المهاجرين إذ أقبل إليه عشرة من أحبار اليهود فقالوا: يا محمد إنا أتيناك لنسألك عن أشياء لا يعلمها إلاّ من كان نبيّاً مرسلا وملكاً مقرّباً. فقال صلى الله عليه وسلم: «سلوني تفقهاً ولا تسألوني تعنّتاً» فقالوا: يا محمد أخبرنا لِمَ أمر اللّه بغسل هذه الأربعة المواضع وهي أنظف المساجد؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنّ آدم لمّا نظر إلى الشجرة قصد إليها بوجهه ثم مشى إليها وهي أوّل قدم مشت إلى المعصية ثمّ تناول بيده وشمّها فأكل منها فسقطت عنه الحلي والحلل فوضع يده الخاطئة على رأسه فأمر اللّه عز وجل بغسل الوجه لما أنه نظر إلى الشجرة وقصدها وأمر بغسل الساعدين وغسل يده وأمر بمسح رأسه، إبتلته الشجرة ووضع يده على رأسه وأمر بغسل القدمين لما مشى إلى الخطيئة فلمّا فعل آدم ذلك كفّر اللّه عنه الخطيئة فافترضهنّ اللّه على أمتي ليكفّر ذنوبهم من الوضوء إلى الوضوء».
قالوا: صدقت، فأسلموا.
فاختلف الفقهاء في حكم الروايات المذكورة في الآية. فجعلوها بمعنى الترتيب والتعقيب وأوجبوا الترتيب في الوضوء وهو أن يأتي بأفعال الوضوء تباعاً واحداً بعد واحد. فيغسل وجهه ثم يديه ثم يمسح رأسه ثم يغسل رجليه، وهو اختيار الشافعي، فاحتج بقوله: {إِنَّ الصفا والمروة مِن شَعَآئِرِ الله} [البقرة: 158].
قال جابر بن عبد اللّه: خرجنا مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في الحج وذكر الحديث إلى أن قال: «فخرج رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إلى الصفا وقال: إبدأوا بما بدأ اللّه به» فدّل هذا على شيئين: أحدهما: أن الواو يوجب الترتيب، والثاني أن البداية باللفظ توجب البداية بالفعل إلاّ أن يقوم الدليل.
واحتج أيضاً بقوله: {اركعوا واسجدوا} [الحج: 77] فالركوع قبل السجود، واحتج أيضاً بقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يقبل اللّه صلاة امرئ حتّى يضع الوضوء مواضعه فيغسل وجهه ثم يغسل يديه ثم يمسح رأسه ثم يغسل رجليه» وثم في كلام العرب للتعقيب.
عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه إنه قال لعبد اللّه بن زيد الأنصاري قال: أتستطيع أن تري كيف كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يتوضأ؟ فقال عبد اللّه: نعم، فدعا بوضوء وأفرغ على يديه فغسل وجهه ثلاثاً ويديه ثلاثاً ومسح رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر بدأ بمقدم رأسه ثم ذهب بهما إلى قفاه ثمّ ذهب بهما إلى المكان الذي بدأ منه، ثم غسل رجليه.
وقال مالك: إن ترك الترتيب في الوضوء عامداً، أعاد وضوءه فإن تركه ناسياً لم يعد، وهو اختيار المزني.
وقال سفيان الثوري وأبو حنيفة وصاحباه: الترتيب في الوضوء سنّة فإن تركه ساهياً أو عامداً فلا إعادة عليه، وجعلوا الواو بمعنى الجمع، واحتجوا بقوله تعالى: {إِنَّمَا الصدقات لِلْفُقَرَآءِ والمساكين} [التوبة: 60] ولا خلاف أن تقديم بعض أهل السهمين على بعض في الإعطاء بتمايز. وبقوله: {ياأيها الذين آمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلِّمُواْ تَسْلِيماً} [الأحزاب: 56]. ويحرم تقديم أحدهما على الآخر.
وأما فضل الوضوء فروى يحيى بن أبي كثير عن زيد عن ابن سلام عن أبي مالك قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «الطهور شطر الإيمان».
وروى حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن عثمان النهدي قال: كنت مع سلمان فأخذ غصناً من شجرة يابسة فحتّه ثم قال: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: «من توضأ فأحسن الوضوء ثمّ صلى الصلوات الخمس تحاتّت عنه خطاياه كما تحات هذه الورق».
وروى زر بن حبيش عن عبد اللّه بن مسعود قال: قيل: يا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كيف تعرف من لم تر من أمتك يوم القيامة؟ قال: «هم غر محجلون من آثار الوضوء».
وروى أبو أمامة عن عمرو بن عبسة قال: قلت: يا رسول اللّه ما الوضوء حدّثني عنه؟ قال: «ما منكم من رجل يقرب وضوءه فيتمضمض ويستنشق وينثر إلاّ جرت خطايا فيه وخياشيمه مع الماء ثم إذا غسل وجهه كما أمر اللّه إلاّ جرت خطايا وجهه من أطراف لحيته مع الماء، ثم إذا غسل يديه من المرفقين إلاّ جرت خطايا يديه من أنامله مع الماء، ثم يمسح رأسه إلاّ جرت خطايا رأسه من أطراف شعره مع الماء، ثم يغسل قدميه إلى الكعبين إلاّ جرت خطايا رجليه من أنامله مع الماء، فإذا هو قام فصلّى وحَمِدَ اللّه وأثنى عليه ومجّده وفرّغ قلبه للّه إلاّ انصرف من خطيئته كهيئته يوم ولدته أُمه».
وعن أنس بن مالك قال: خدمت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وأنا ابن ثمان سنين وكان أول ما علّمني أن قال: «يا أنس يا بني أحسن وضوءك لصلاتك يحبك اللّه ويزاد في عمرك».
وروى سعيد بن المسيب عن عبد الرحمن بن حمزة الأنصاري قال: خرج علينا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ونحن في مسجد المدينة فقال: «لقد رأيت البارحة عجباً، رأيت رجلاً من أُمتي قد بُسِطَ عليه عذاب القبر فجاء وضوؤه فاستنقذه من ذلك».
{وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فاطهروا} فاغتسلوا.
روى أبو ذر عن علي عليه السلام فقال: أقبل عشرة من أحبار اليهود، فقالوا: يا محمد لماذا أمر اللّه بالغسل من الجنابة ولم يأمر من البول والغائط وهما أقذر من النطفة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنّ آدم لما أكل من الشجرة تحوّل في عروقه وشعره، وإذا جامع الإنسان نزل من أصل كل شعرة فافترضه اللّه عز وجل عليّ وعلى أمتي تكفيراً وتطهيراً وشكراً لِما أنعم عليهم من اللذة التي يصيبونها منه».
قالوا: صدقت يا محمد، فأخبرنا بثواب ذلك من اغتسل من الحلال، فقال صلى الله عليه وسلم: «إنّ المؤمن إذا أراد أن يغتسل من الحلال بنى اللّه له قصراً في الجنّة وهو سرّ بين المؤمن وبين ربه، والمنافق لا يغتسل من الجنابة فما من عبد ولا أمة من أمتي قاما للغسل من الجنابة تيقناً أني ربهما، أُشهدكم أني غفرت لهما كتبت لهما بكل شعرة على رأسه وجسده ألف سنة ومحى عنه مثل ذلك ورفع له مثل ذلك». قالوا: صدقت، نشهد أن لا إله إلاّ اللّه وأنّك رسول اللّه.
وعن أبي محمد الثقفي قال: سمعت أنس بن مالك يقول: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: «يا بني الغسل من الجنابة فبالغ فيه فإنّ تحت كلّ شعرة جنابة». قلت: يا رسول اللّه كيف أبالغ؟ قال: «نقّوا أصول الشعر وأنق بشرتك تخرج من مغتسلك وقد غفر لك كل ذنب».
وقال عبد الرحمن بن حمزة: خرج علينا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ذات يوم ونحن في مسجد المدينة. فقال: «إني رأيت البارحة عجباً، رأيت رجلاً من أُمتي والنبيون قعود حلقاً حلقاً كلما دنا إلى حلقه طردوه فجاءه اغتساله من الجنابة فأخذ بيده فأقعده إلى جنبي».
{وَإِن كُنتُم مرضى أَوْ على سَفَرٍ} إلى قوله: {بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِّنْهُ} أي من الصعيد {مَا يُرِيدُ الله لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم} بما فرض عليكم من الوضوء والغسل والتيمم {مِّنْ حَرَجٍ} من ضيق {ولكن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} من الأحداث والجنابات والذنوب والخطيئات {وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} فيما أباح اللّه لكم من التيمم عند عدم الماء وسائر نعمه التي لا تحصى {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} اللّه عليها.
وروى محمد بن كعب القرضي عن عبد اللّه بن داره مولى عثمان بن عفّان رضي الله عنه عن عمران مولى عثمان قال: مرّت على عثمان فخارة من ماء فدعا به فتوضأ فأسبغ وضوءه ثم قال: لو لم أسمعه من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إلاّ مرّة أو مرّتين أو ثلاثاً ما حدّثتكم به.
سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: «ما توضّأ عبد فأسبغ وضوءه ثم قام إلى الصلاة إلاّ غفر الله له ما بينه وبين الصلاة الأخرى».
قال محمد بن كعب: فكنت إذا سمعت الحديث من رجل من أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم التمسته في القرآن فالتمست هذا في القرآن فوجدته {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً * لِّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} [الفتح: 1-2] فعلمت أن اللّه لم يتم عليه النعمة حتّى غفر له ذنوبه.
ثم قرأت الآية التي في المائدة {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة} حتّى بلغ قوله: {يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} فعرفت أنّ اللّه لم يتم عليهم النعمة حتى غفر لهم.
قتادة عن شهر بن حوشب عن الصّدي بن عجلان وهو أبو إمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم إنه قال: «الطهور يكفر ما قبله ثمّ تصير الصلاة نافلة».
{واذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ} يعني النعم كلها {وَمِيثَاقَهُ} عهده {الذي وَاثَقَكُم بِهِ} عاهدتم به أيها المؤمنون {إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} وذلك حين بايعوا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة فيما أحبوا وكرهوا. هذا قول أكثر المفسرين.
وقال مجاهد: من الميثاق الذي أخذ اللّه على عباده حين أخرجهم من صلب آدم عليه السلام {واتقوا الله إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} عليم ما في القلوب من خير وشر {يَا أَيُّهَآ الذين آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ شُهَدَآءَ بالقسط} أمرهم بالصدق والعدل في أقوالهم وأفعالهم {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ} ولا يحملنكم بغض قوم {على أَلاَّ تَعْدِلُواْ} أي على ترك العدل فيهم لعداوتهم، ثم قال: {اعدلوا} بين أوليائكم وأعدائكم {هُوَ أَقْرَبُ للتقوى} يعني إلى التقوى {واتقوا الله إِنَّ الله خَبِيرٌ} عالم {بِمَا تَعْمَلُونَ} مجازيكم به {وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} تقديرها: وقال لهم مغفرة، لأنّ الوعد قول، فلذلك جمع الكلام {والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ أولئك أَصْحَابُ الجحيم}.


{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12) فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13)}
{يَا أَيُّهَآ الذين آمَنُواْ اذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ} بالدفع عنكم {إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ} بالقتل {فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ واتقوا الله وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون}.
نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ببطن نخل في الغزوة السابعة فإذا بنو ثعلبة، وبنو محارب أرادوا أن يمسكوا به وبأصحابه إذا اشتغلوا بالصلاة، قالوا: إن لهم صلاة هي أحب إليهم من آبائهم وأمهاتهم فإذا سجدوا فيها أوقعنا بهم، فأطلع اللّه نبيّه على ذلك، وهي صلاة الخوف.
وقال الحسن:كان النبي صلى الله عليه وسلم محاصراً بطن نخلة. فقال رجل من المشركين: هل لكم في أن أقتل محمداً، قالوا: فكيف تقتله؟ قال أمسك به، قالوا: وددنا إنّك فعلت ذلك. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو متقلد سيفه، فقال: يا محمد أرني سيفك فأعطاه إياه فجعل الرجل يهز السيف وينظر مرّة إلى السيف ومرّة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: من يمنعك مني يا محمد؟ قال: «اللّه»، فتهدّده أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأغلظوا له فشام السيف ومضى. فأنزل اللّه هذه الآية.
الزهري عن ابن سلام عن جابر بن عبد اللّه: أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل منزلاً وتفرق الناس في العضاة يستظلون تحتها فعلّق النبي صلى الله عليه وسلم سلاحه بشجرة فجاء أعرابي إلى سيف رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فسلّه ثمّ أقبل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من يمنعك منّي؟ قال: «اللّه»، قال الأعرابي مرّتين أو ثلاثاً: من يمنعك منّي؟ والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «الله»، فشام الأعرابي السيف، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه فأخبرهم بخبر الأعرابي وهو جالس إلى جنبه لم يعاقبه.
وقال مجاهد وعبد اللّه بن كثير وعكرمة والكلبي، وابن يسار عن رجاله: بعث النبي صلى الله عليه وسلم المنذر ابن عمرو الأنصاري الساعدي وهو أحد النقباء ليلة العقبة في ثلاثين راكباً من المهاجرين والأنصار بني عامر بن صعصعة فخرجوا فلقوا عامر بن الطفيل بن مالك بن جعفر على بئر معونة وهي من مياه بني عامر، فاغتسلوا فقتل المنذر بن عمرو الأنصاري الساعدي وأصحابه إلاّ ثلاثة نفر كانوا في طلب ضالة لهم أحدهم: عمرو بن أميّة الصيمري، فلم يرعهم إلاّ والطير تحوم في السماء تسقط من بين خراطيمها علق الدّم، فقال أحد النفر: قتل أصحابنا، ثم تولى يشتد حتّى لقي رجلاً فاختلفا ضربتين فلما خالطت الضربة رفع رأسه إلى السماء وفتح عينيه وقال: اللّه أكبر الحمد للّه ربّ العالمين. ورجع صاحباه، فلقيا رجلين من بني سليم وبين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قومهما موادعة، فانتسبا لهما إلى بني عامر فقتلاهما وقدم قومهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم يطلبون الدية فخرج ومعه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة وعبد الرحمن بن عوف حتّى دخلوا على كعب بن الأشرف وبني النظير فاستعانهم في عقلهما، فقال: نعم يا أبا القاسم قد آن لك أن تأتينا وتسألنا حاجة. إجلس حتّى نطعمك ونعطيك الذي تسألنا، فجلس النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فخلا بعضهم ببعض، وقالوا: إنّكم لن تجدوا محمداً أقرب منه الآن فمن يظهر على هذا البيت فيطرح عليه صخرة فيرتحل عنّا. فقال عمرو بن جحش بن كعب: أنا، فجاء إلى رحى عظيمة ليطرحها عليه فأمسك اللّه أيديهم وجاء جبرئيل عليه السلام وأخبره بذلك فخرج النبي صلى الله عليه وسلم ثمّ دعا علياً فقال: لا تبرح من مكّة، فمن خرج عليك من أصحابي فسألك عنّي فقل توجه إلى المدينة، ففعل ذلك علي عليه السلام حتّى قاموا إليه ثم لقوه فأنزل اللّه عز وجل هذه الآية.
قال الثعلبي: وهذا القول أولى بالصواب لأنّ اللّه تعالى عقّب هذه الآية بذم اليهود، وذكر قبح أفعالهم وأعمالهم فقال عز من قائل {وَلَقَدْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ بني إِسْرَآئِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ} الآية، وذلك أنّ اللّه تعالى وعد موسى أن يورثه وقومه الأرض المقدسة وهي الشام وكان يسكنها الكنعانيون الجبارون، ووعده أن يهلكهم ويجعل أرض الشام مساكن بني إسرائيل، فلما تركت بني إسرائيل الدّار بمصر أمرهم اللّه تعالى المسير إلى أريحا أرض الشام وهي الأرض المقدسة.
وقال: يا موسى إني قد كتبتها لكم داراً قراراً فاخرج إليها وجاهد من فيها من العدو فإني ناصركم عليهم، وخذ من قومك إثني عشر نقيباً من كلّ سبط نقيباً يكون كفيلاً على قومه بالوفاء منهم على ما أُمروا، به فاختار موسى عليه السلام النقباء وهذه أسماؤهم: من سبط روبيل: شامل بن ران، ومن سبط شمعون: شاقاط بن حوري، ومن سبط يهودا: كالب بن يوقنا، ومن سبط آبين: مقايل بن يوسف، ومن سبط يوسف، وهو سبط إفراهيم ويوشع بن نون، ومن سبط بيامين: قنطم بن أرقون ومن سبط ريالون: مدي بن عدي، ومن سبط يوسف وهو ميشا بن يوسف: جدي بن قامن، ومن سبط آهر: بيانون بن ملكيا ومن سبط تفتال: نفتا لي محر بن وقسي، ومن سبط دان: حملائل بن حمل، ومن سبط أشار: سابور بن ملكيا.
فسار موسى ببني إسرائيل حتّى إذا قربوا من أرض كنعان وهي أريحا. بعث هؤلاء النقباء إليها يتجسّسون له الأخبار ويعلمونه فلقيهم رجل من الجباريّن يقال له عوج بن عنق وكان طوله ثلاثة آلاف وعشرون ألف ذراع وثلاثمائة وثلاثون ذراعاً وثلث ذراع.
قال ابن عمر: كان عوج يحتجز بالسحاب ويشرب منه ويتناول الحوت من أقرار البحر فيشويه بعين الشمس يرفعه إليها ثم يأكله.
ويروى له أنه رأى نوحاً يوم الطوفان فقال: إحملني معك في سفينتك، فقال له: أُخرج يا عدو اللّه فإنّي لم أُؤمر بك وطبق الماء ما على الأرض من جبل وما جاوز ركبتي عوج، وعاش عوج ثلاثة ألاف سنة ثم أهلكه اللّه على يد موسى، وكان لموسى عليه السلام عسكر فرسخاً في فرسخ، فجاء عوج حتى نظر إليهم ثم جاء فنحت الجبل فأخذ منه بصخرة على قدر العسكر ثم حملها ليطبقها عليهم فبعث اللّه تعالى إليه الهدهد ومعه المص يعني منقاره حتّى نقر الصخرة فانثقبت فوقعت في عنق عوج فطوقته وأقبل موسى عليه السلام وطوله عشرة أذرع وطول عصاه عشرة أذرع وتراقي السماء عشرة أذرع فما أصاب إلاّ كعبه وهو مصروع بالأرض فقتله.
قالوا: فأقبلت جماعة كثيرة ومعهم الخناجر فجهدوا حتّى جزّوا رأسه فلما قتل وقع في نيل مصر فجسرهم سنة وكانت أمّه عنق ويقال عناق إحدى بنات آدم، ويقال: إنّها كانت أوّل من بغت على وجه الأرض وكان كل إصبع من أصابعها ثلاثة أذرع وذراعين، وفي كل إصبع ظفران حديدان مثل المنجلين. وكان موضع مجلسها جريباً من الأرض. فلمّا بغت بعث اللّه عز وجل عليها أسداً كالفيلة وذئباً كالإبل ونسوراً كالحمر وسلّطهم عليها فقتلوها وأكلوها.
قالوا: فلما لقيهم عوج وعلى رأسه حزمة حطب أخذ الإثني عشر فجعلهم في حجزته وحجزة الإزار معقد السراويل التي فيها التكّة فانطلق بهم إلى امرأته وقال: أُنظري إلى هؤلاء القوم الذين يزعمون أنهم يريدون أن يقاتلونا، فطرحهم بين يديها.
وقال: ألا أطحنهم برجلي، فقالت إمرأته: لا بل خلِّ عنهم حتّى يخبروا قومهم بما رأوا، ففعل ذلك فجعلوا يتعرّفون أحوالهم، وكان لا يحمل عنقود عنبهم إلاّ خمسة أنفس منهم في خشبة ويدخل في شطر الرّمانة إذا نزع حبّها خمسة أنفس أو أربعة، فلمّا خرجوا قال بعضهم لبعض: يا قوم إنّكم إن أخبرتم بني إسرائيل خبر القوم إرتدّوا عن نبي اللّه ولكن اكتموا وأخبروا موسى عليه السلام وهارون فيكونان هما يريان رأيهما، فأخذ بعضهم على بعض الميثاق بذلك. ثم انصرفوا إلى موسى وحاول بحبّة من عنبهم وفرّ رجل منهم، ثم إنّهم نكثوا العهد، وكل واحد منهم نهى سبطه عن قتالهم ويخبرهم بما رأى، إلاّ رجلان منهم يوشع وكالب، فذلك قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ بني إِسْرَآئِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثني عَشَرَ نَقِيباً}.
وقال اللّه لبني إسرائيل {إِنِّي مَعَكُمْ} ناصركم على عدّوكم.
ثم ابتدأ الكلام فقال عزّ من قائل: {لَئِنْ أَقَمْتُمُ} يا معشر بني إسرائيل {الصلاة وَآتَيْتُمُ الزكاة وَآمَنتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ} أي ونصرتموهم ووقرتموهم.
وأشعر أبو عبيدة:
وكم من ماجد منهم كريم *** ومن ليث يعزّر في الندي
ويروى: وكم من سيّد يُحصى نداه ومن ليثِ.
{وَأَقْرَضْتُمُ الله قَرْضاً حَسَناً} ولم يقل أقراضاً، وهذا مما جاء من المصدر بخلاف المصدر كقوله: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ} [آل عمران: 37] {لأُكَفِّرَنَّ} لأستبرءنّ ولأمحوّنّ {عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذلك مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السبيل} أي أخطأ قصد السبيل وهو لكل شيء وسطه، ومنه قيل للظهر: سواء {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ} أي فبنقضهم وما فيه ما المصدر، وكلّ ما ورد عليك من هذا الباب فهو سبيله.
قال قتادة: نقضوه من وجوه: كذّبوا الرسل الذين جاؤا بعد موسى فقتلوا أنبياء اللّه ونبذوا كتابه وضيّعوا فرائضه.
قال سلمان: إنما هلكت هذه الأمّة بنكثها عهودها.
{لَعنَّاهُمْ} قال ابن عباس: عذّبناهم بالجزية. الحسن ومقاتل: بالمسخ عطاء أبعدناهم من رحمتنا {وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً}.
قرأ يحيى بن رئاب وحمزة والكسائي قسّية بتشديد الياء من غير ألف. وهي قراءة النخعي، وقرأ الأخفش: قسية بتخفيف الياء على وزن فعلية نحو عمية وشجية من قسى يقسي لا من قسى يقسو، وقرأ الباقون: قاسية على وزن فاعلة، وهو اختيار أبو عبيدة، وهما لغتان مثل العلية والعالية والزكية والزاكية.
قال ابن عباس: قاسية يائسة، وقيل: غليظة لا تلين، وقيل: متكبرة لا تقبل الوعظ، وقيل: ردية فاسدة، من الدراهم القسية وهي الودية المغشوشة {يُحَرِّفُونَ الكلم عَن مَّوَاضِعِهِ} قرأه العامّة بغير ألف، وقرأ السلمي والنخعي: الكلام بالألف {وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ} وتركوا نصيب أنفسهم مما أمروا به من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبيان نعمته {وَلاَ تَزَالُ} يا محمد {تَطَّلِعُ على خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ}.
وإختلفوا في الخائنة:
قال المبرّد: هي مصدر، كالكاذبة، واللاّغية، وقيل: هي إسم كالعاقبة والمعاقبة، وقيل: هي بمعنى المبالغة، والهاء هنا للمبالغة مثل: راوية وعلامة ونسابة.
قال الشاعر:
حدّثت نفسك بالوفاء ولم تكن *** للغدر خائنة مغلّ الإصبع
ويجوز أن يكون جمع الخائن كقولك فرقة كافرة وطائفة خارجة.
قال ابن عباس: خائنة أي معصية، وقيل: كذب وفجور، وكانت خيانتهم نقضهم العهد ومظاهرتهم المشركين على حرب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وهمهم بقتله وسمّه ونحوها من عمالتهم وخيانتهم التي أخبرت {إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ} لم يخونوا أو لم ينقضوا العهد، من أهل الكتاب {فاعف عَنْهُمْ واصفح إِنَّ الله يُحِبُّ المحسنين} وهذا منسوخ بآية السيف.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8